ملاحظاتٌ قبل أن ننطلق:
*الكلامُ الوارِد في المقال لا يجب أن يُؤخذ على سبيل التعميم.*
*أطلق عليها اليونانيون اسم "ميلامبوديس" وتعني "الأرض السوداء"*
جلسنا على كُرسيين عتيقين، في مقهى على ضفاف أحد أشهر الأنهار، تمتزج السماءُ بلون المياه في الأُفق.. منظر خلاب يأسر الألباب.. ويرقص صرصُور ليلٍ لعينٍ في جشع تحت إحدى الطاولات، لابـُد أنه سيتزوّج الليلة، لا أحد يرقص ويغني بهذه السعادة إلا إن كان سيتزوج – إن كان عازبًا- ، أو أن زوجته رحلت – إن كان مُتزوجًا- ، والفارق كبير.. لكن دعنا من حالة الصُرصور العاطفية، لقد رأيتُ أنهُ الوقت المُناسب للحديث، لابد أنه كذلك.. محمود صديقي الوطنيّ جدًا، دائمُ المعارضة لي حول آرائي الوطنية الوقحة بحسب وصفِه لها.. وقد قرر أن يُحوّل هذه الجلسة الجميلة على ضفاف نهرٍ جميل – يزخر بمسببات البلهارسيا باعتقادي- إلى مُناظرةٍ شديدة اللهجة، وأعتقدُ أنّني سأوافق على ذلك لمرّة أخيرة قبل أن أٌغلق باب الحديث عن هذا الموضوع في وجهه إلى الأبد.
"ماذا تقُول في أرضنا، ووطننا؟" ، قالها بلهجة جُنديٍ عائدٍ من انتصار أكتُوبر.. لكن إجابتي كانت باردةٍ جدًا.. قُلت له إن ميلامبوديس لم تعُد ذات المكان، هذه ليست الأرض ذاتها، السماء ليست هي ذات السماء، والأشخاص.. الأشخاص لم يعُودوا هُم أولئك الأشخاص، هذا ليس وطننا، إن كانت ميلامبوديس أرضكُم فهي لم تعُد كذلك بالنِسبة إليّ، استمتعوا بوطنيّتكم الزائفة وشعاراتِكم الكاذبة، وبالتأكيد آمالكم المرسومة بقلمٍ من الرصاص، ما عادت تعني شيئًا الآن، يكُون الأمل ذا قيمةٍ إن كانَ لهُ ما يقُود إليه على أرض الواقع، لكن إن ارتبط الأملُ بخيالاتٍ وتهيؤات فلا خير فيه.. لا أذكرُ لوطنِي حسنةً واحدة في الماضي، وبالتأكيد لن أتوقع قدُوم الحسنات في المستقبل.
- "إذن أنت تتبرّأ من أرضك وأرض أجدادِك وآبائك؟"
في الواقع هذا سؤالٌ مثيرٌ للسخرية.. لطالما استخدموا هذا السؤال لإفزاعي حينَ كُنت طفلًا يلهُو ويعترضُ على ما يدُور في ميلامبوديس، حين كُنت أُطيل النقاش سارحًا بمُخيلتي في شارِع المشاكل المُكتظ.. كانُوا دائمًا يطرحون عليّ ذات السؤال، في الحقيقة لا أعلمُ لماذا يُفرض عليك أن تفتخر بأرض آبائك وأجدادِك، ولماذا يكُون هذا من شروط وجُوب إقامتك في ذات الأرض التي عاشوا عليها، ما علاقةُ ماضيهم بقراراتي؟ كانت هذه البلاد صالحةً للعيش والآن هي ليست كذلك، لو أن كُل إنسانٍ لزِم أرض آبائه وأجدادِه لبَقي البشرُ في ذات المكان مُنذ بدأ الخليقة ولما انتشرُوا في البلاد.. ألا تُوافقني؟ ، لماذا نستمر بذكر من سبقُوا؟ هُم قد عاشوا حياتهم كما رغِبوا وانتهى عهدُهم وعهدُ مجد هذه البلاد، لمَ يُفرض علينا دائمًا أن نفتخر بما فعلُوه؟ هُم قد فعلوه ولسنا نحن.. ثم إن..
- قال مُقاطعًا "لكن ميلامبوديس لديها سبعتلاف سنة حضارة يبني! وأيضًا نـ.."
قاطعتُه كما قاطعني وقُلت: وما فائدةُ تقدّمك وتطوّرك في زمنٍ مضى؟ في حين أنك تعيشُ الآن في قاع الحضيض؟ لن تحل لك سنينُ الحضارة مُشكلات البطالة، والطبيبُ الذي يقُود "المشرُوعَ" إيّاهُ لن تُطعمه سنين الحضارة إن تعطّلت سيّارتُه ليومٍ أو اثنين، سنينُ الحضارة لم تُلذ المُشرّدين في الطُرقات، ولم يأوِ إليها الكادحُون حينَ تفاقمت الأمُور، سنينُ الحضارةِ لن تُعلّم الأطفال، ولن تُطوّر أنظمة التعليم الفاشِلة..
- " أنظمة التعليم الفاشلة التي تتحدث عنها قد أخرجَت لنا أحمد زُويل ومجدي يعقُوب.. وغيرُهم الكثير الكثير"
إذا نظرنا إلى عدد سُكاننا.. كم نسبةُ العلماء الجهابذة والأطباء العباقرة الذين تتحدّثُ عنهم إلى المُجتمع؟ ، قليلُون؟، كم شركةً مؤهلة لتصنيع الدواء المصري الذي ابتكره علماء مصريون؟، كم تمتلك بلادنا من مصانع إنتاج السيارات التي يُديرها مهندسون أكفّاء تخرجوا من أنظمتنا التعليمية المميزة؟ كم براءة اختراع مُلهمة ومفيدة؟ .. قليلُون هم.. أليس كذلك؟ وقِلّتُهم دليلٌ على أن ما وصل إليه العباقرة الذين ذكَرتهم أنت كان من ثمرات الإجتهاد الشخصِي، لأنه لو كان من ثمرات النظام التعليمي الناجح لرأيت أضعاف أضعاف ما ترى الآن من هؤلاء القُدوات.
- "لكن الخير موجودٌ في هذا الشعب لايزالُ هنالك أمل"
بالتأكيد! هنيئًا لك الأمل، أتمنى أن تعيشا بسلامٍ معاً، بعيداً عني، عيشُوا بسلام.. أقنعُوا أنفسكم بأنّكم وطنيّون وأن هذه الأرض تستحِق ما تُلاقون من عناء في سبيل العيش على ثرَاها.. أنا لا أجِد ما يربِطُني بهذه الأرض سِوى أنه –لسعادة حظي- وُلدت فيها و ارتبطَت باسمي في بطاقة هويّتي، إن الوطنية العمياء والإخلاص الأصم الذي تبحث عنه لن تجده فيّ، لماذا تُقدَّس الأرض وترتفع قيمتها حتى تتساوى بقيمة الإنسان أو تزيد؟ لماذا نُنكر أن أرضنا لم تُقدم لنا ما يدعو لأن نُحبها ونتغنّى بها؟، ميلامبوديس لا أمان فيها، إن لم تكُن ذلك الفتى المُدلل الذي ابتاع لهُ "بابي" فيلا شامخة في أحد التجمعات المحشوة برجال الأمن والكاميرات.. فلا أمان هُنا يا صديقي.. أنت تمشي في الشوارع على استعدادٍ بأن تُطعن إن حاولت أن تمنَع مُتحرّشًا من فعلتِه، أو تُطعن إن حاولت أن تأخذ حقّك مع سائقٍ طائش، أو تُطعن دُون سبب لمُجرد كسر الملل.. لا أمان لك في الشوارع العامة، لا أمان لكَ حتى في منزلك.. ميلامبوديس لا وعي فيها، تابع الأخبار وستجدُ شعبنا كُل يومين ينقسم إلى فئتين فجأةً ودُون أسباب، فئةٌ تترحّمُ على الكُفار وفئةٌ تلعن المترحّمين على الكُفار، فئـةٌ ترى أن النساء هم نصف المُجتمع، وفئةٌ ترى أن الرِجال نصفُ المجتمع، ولا يدركان أن أي مُجتمعٍ قابلٌ للقسمة على نِصفين فقط! ، فئةٌ تحب الفُول وفئةٌ تُحب الفلافِل! ، خطُوطٌ متوازية لا مجال لالتِقائها، وضياعُ أوقاتٍ فيما لا يُفيد، وإن مَللنا نبدأ بالسُخرية، السُخرية من أنفسنا، من الدول المجاورة، من الدين، من كُل شيءٍ وأيّ شيء!.. ميلامبوديس لا أملَ في شبابِها، الطفلُ هُنا قبلَ أن يتعلّم القراءة يتعلّم البلطجة والعِراك ورفع الصوت وعدم احترام الكبار، لا أعلم ماذا حدث للأطفال بريئي الملامح مُحبي الدُمى، أطفالُ هذه البلاد في وجُوههم غباء صارخ، وفي أخلاقهم عطبٌ لا شك فيه، في الثانية عشر وتراهُ ينفُث دخان السجائر كقطارٍ قديم، ولديه قامُوس سبٍ وقذف يحوي ألفُ كلمةٍ على الأقل، يتحرّش بالنساء قبل حتّى أن يبلغ الحلم! ، ويرتبط بثلاثين فتاة تُشبهه على الأقل قبل أن يُتمّ السادسة عشر، وقد يُمارس كُل ما هُو عيبٌ وحرام على سبيل التجربة.. أمّا الفتاةُ في السن إيّاه فتراها تبدأ بإنتاج مقاطعٍ راقصة وصور خليعة بملابس تؤخذ على محمل عدم الوُجود، وتنشرها مستجديةً التعاطف أحيانًا، ومُغردةً بالقوّة والاستقلال أحيانًا، وكِلاهُما –أي كلا الجنسين- يتفننان في الجهل بالدين، والمساس بالمُحرمات، ولا ألُومهم فقط، أين مسؤولية الأهل وأين مسؤولية الدولة في الحفاظ على شبابها من هكذا مصير؟ أم أين مسؤولية من وكيف ولماذا؟ لا أحد يعلم مسؤولية من ما وصلت إليه الأمور.. ولا أحد يعلم كيف وصلت ميلامبوديس إلى هذا المنحدر.. كيف سيكُون مستقبل البلاد إن كانت هذه أخلاق الجيل القادم؟.
- "ألا تفتخر بأرضك وتراثك وأجدادك؟ من لا خير فيه لوطنه لا خير فيه إطلاقًا!"
هل تُطالبني أن أفتخر بانتمائي للأرض؟ لم تُقدّم لي هذه البلاد ما يدعُو لأفتخر بها، أم تُطالبني أن أفتخر بانتمائي للشعب؟ أليسَ سائقُ "المشروع" الذي يكادُ يطعنني في أي لحظة من الشعب؟ واللصُ الذي يظلمُ المواطن الـمُعدم ويبني القصُور المشيدة من الشعب؟ سائق "التوكتوك" الذي هددني بسكيـنٍ لاختلافِنا في جُنيهٍ أو اثنين، أليس من الشعب؟ البائع النصّاب من الشعب؟، وتلك الكائنات التي تسُب الدين في الشوارع ليلًا ونهارًا دون كللٍ أو مللٍ – أليسوا من الشعب؟ ، الموظّفُ الحكُومي عديم الأخلاق أليسَ من الشعب؟ والمُرتشون في كُل مكانٍ أليسوا من الشعب؟ والفيلسُوف الذي يعيش نظرية المؤامرة ويُضر نفسه وشعبه، أليس من الشعب؟.
- "أنت ناكرٌ للجميل، أنت لا تقدر الأرض التي ربّتك ولا الأناس الذين أحاطوا بك وساندوك دومًا.."
رُبما، لكن هذه الأرض لم تمنحني ما يشفعُ لها، ليس بهذه الأرض مستقبلٌ إلا لمغنٍ رديء الصوت مُصاب بالانتفاخ، أو لراقصةٍ سبعينيـةٍ رشيقة، و مُقدموا برامج المقالب ثقيلي الظل، ونجُوم شاشاتٍ يُصدّرون الرذيلة والبلطجة والإنحطاط لشبابٍ طائش، ثُم يعُـودون في حملاتٍ مُمنهجة للتحذير من الرذيلة والبَلطجة والإِنحِطاط! وللومِ الشباب على تقليد كُل ما يرونه في التلفاز!، الـمُستقبل مُشرِقٌ للصوصٍ بخلاء نهبُوا البلاد ثُم استأثروا لأنفسهم بكومباونداتٍ آمنة بعيدًا عمّا خلفوهُ وراءهم من دمار.. ليُطلّوا علينا بإعلاناتٍ فظّة متبجّحين بنتائج سرِقاتِهم المتواصلة.. ليخبرُونا أنّهم قد بنوا "مدينتهم" الخاصة بعيدًا عن أنظارنا نحنُ الغجريون.. في "مدينتهم" يحفظون قائمة المشروبات التي يقدمها "نجم بوكس"، ويفطُرون بيض النعام، لذلك الحق كُل الحق لهم في أن يستنقصوا منّا، نحنُ غجريون فعلًا!... لكنني لا ألومُهم، ألُوم بقيّة الشعب أيضًا.. وألُومك وألُوم نفسي.. أتدري؟ أنا ألُوم الجميع، وهذه هي الـمُشكلة.. لم يعُد اللومُ يوجّهُ لشخصٍ بعينه، أصبحَ الجميعُ مُشتركون فيما وصَل إليه الحال، الجميعُ يكره الجميعَ ويُطالب الجميعَ بأن يتحضّروا ويتوقفوا عن السرقة والنهب والبلطجة لكي يُصبح الجميع بخيرٍ من جديد.. هنيئًا لكم جميعًا.. أما أنا فسوف أُغادر على متنِ أولِ طائرة ٍفي أقرب فُرصة.. لستُ مِن مُدّعي الإصلاح ولا من الداعِين إلى معالجة الأوضاع إن عُمر هذه الأرض يبلُغ ملايين السنين، بينما عُمري الافتراضي كبشري لا يتجاوز السبعة عقُود، وأنا لستُ في استعدادٍ لأُضيع سنيّ عُمري القليلة في بلدٍ لا تستَحِق ذلك.. أنا أرى الواقِع ولا داعِي لأكذب على نفسي بأن الأُمور ستصبح أفضل في الغد.. لا يُوجد غدٌ هنا.
" ..."-
هل تعرف سوادَ العسل؟ ، هُنالك فارقٌ كبير بين العسل الأسود و الزِفتْ الأسود.. ربما يشتركان في الدرجة اللونية.. لكن إيّاك أن تطلب منّي أن آكل الزِفت وتحاول أن تقنعني أنّه كالعسل الأسود.. لا يا عزيزي.. كُل من الزفت بقدر ما ترغب بمفردِك.. أنا ذاهبٌ لآكل في مكانٍ آخر.
