إذن.. تقرأُ كلماتي من خلف شاشة هاتفك، أو حاسُوبك العتيق.. أصابَ الحجرُ من فراغِك إصابةً عظيمة.. لذلك دعنَا نحتسي قدحينِ من القهوة -كما يفعَلُ الرجال المثقفون في نظرتنا النمطية- ونجلِس على طاولة النقاش، أطرَح عليك رأيًا وتسُبني في خانة التعليقات لأنه لم يناسبك، لا بأس في ذلك حقًا.. قليلٌ من التسلية في هذا الوضع الجامد لن تضر أحدًا.. ماذا؟ لا تُحب القهوة؟ لا مُشكلة سأحتسي القدحين، لا عليك.. فقط أنصت قليلًا – أو اقرأ - أيًا يكُن.. وسأتحدَّثُ هُنا عن طباعٍ وأُسس، لا عن شخصيّاتٍ معينة، ولا يختَصُ حديثي بجنسٍ دُون آخر، أو عُمرٍ معيّن.. فقد ترى ما سأُورد من أنواعٍ قد يختلطُ بعضها ببعضٍ في أحد الأشخاص.. أو قد يتفردُ الشخص بصفات نوعٍ دُون آخر، ولا أدلّة هُنا يا صديقي أو إحصائيات، أنا أنثُر واقع رؤيةٍ، ومعاشرةٍ، وتجرُبة، بشيءٍ من السرد الذي لا يطُول ولا يَقصُر.. هذهِ مُهمتي.. أما عن مُهمتك يا عزيزي –بجانب أن تمدحني أو تذبحني في المكان المخصص للتعليق- فهي تقتصرُ على إسقاطاتك الفذّة على واقعك المعيشي.. لذلك دَعني أروي، وسأدَعُك تُحلل.. لكن عِدني ألّا تُقاطعني.. وأن تُناولني قدحًا من القهوة أو الماء كُلما احتجتُ لذلك.. لنبدأ الآن.. فأنا لا أُحب المقدمات كما تعلم!.
أخبرَني أبي مرةً عن الرجُل الذي كان إن أصابهُ الحزن، اعتَلى سريره، ثم غطّ في نومٍ عميقٍ ليصحُو صبيحة اليوم التالي وقَد نسِي همُومه تمامًا ويبدأ يومَهُ بابتسَامة.. كانَ كُل ما يفعله لتجاوز الحُزن أن يغفُو فقط!.. شغلت القصّةُ بالي كثيرًا.. كيف ينسى لمجرد أن ينام؟ ثم كيف ينامُ أصلًا وقد بلغَ منهُ الحزن مبلغًا عظيمًا؟.. كانت تلكَ تساؤلاتي التي قادتني لأن أُلاحظ بوضُوح مع مرُور الوقت وتتابُع معرفتي بالبشر.. أنّ لبعضِهم قلُوبًا قد غُلّفت بجلدِ تمساحٍ عجوزٍ سميك، وبعضُهم قَد غُلف قلبُه بجناحَي أرَق الفرَاشات.
حتّى في تفكِيرهم لبعضِهم عقلٌ أشبَه بالحاسوب، أو الرجل الآلي.. لدَيهِ مُعطياتٌ، يمنحُك على أساسها مخرجات.. طريقة تعامله مع المعطيات بسيطة -الشكل- .. ناتِجُ جمع الرقمين ١+١= ٢، لا خيَال هُنا ولا يُوجد مساحةٌ شاعرية، أو نظرةٌ غير مألوفة.. نتحدَّث عن عقلٍ حاسُوبي لا شعُور فيه، وأتحدّثُ هنا مجازًا فالجميعُ لديهم مشاعرٌ بالتأكيد، لكن صاحب هذا العقل يكَادُ يُقنعك بعكس ذلك، لفرط تجاهُلهِ لكُل ما هُو محسوسٌ غيرُ ملموس.. لديه أهدافٌ محددة لا يتشتتُ عنها، ويتحدّث بلغَة معقّدة لا يفهمهَا إلا عقلٌ مثله.. لا يلتفتُ لمشاعرٍ قد تُلهيهِ عن أهدافِه، ومسؤوليّاتهُ أولويَّةٌ لديه.. صريحُ العبَارة قليلُ التفكير في العواقِب إن لم تكُن تخُصّه، ثابتُ المزاج كالصَخر، لرُبما ظل على نفسِ مزاجه الذي كان عليه في بطنِ والدته ولا حرج.. ينامُ بعدَ تخطيطٍ مُحكم للغد، ولما بعدَه، وللمئتين وسبعين سنةً القادمَة من عُمره!، يُخطط لذلك بمُعطيات واقعهِ، لا مجالَ عندهُ للأخطاء، للخيال، ولا للأحلام.. ما سألقاهُ غدًا يعتمدُ على ما سأفعلهُ اليوم، لن تأتي المُعجزة من السماء لسوادِ عينيك.. عقلٌ شديدُ التركيز فيما يُريد لكنُّه لا يتذكّر اسم صديقه العزيز، غالبًا مُقنن العلاقات لا يراها ذَات منفعة، مقتَضبُ الكلام.. يرُد عليكَ فيمَا سألت، يُعطيك ما طلبت.. دائمًا ١+١= ٢ ، لا جديد.. يُحب أن يكُون بمعزِل عن العالَم، أحزَانُه لهُ وحده.. لا يُحب أن يُشارك فيها أحدًا ولا أن يرويها لأحد.. لأن أحزَانهُ من واقعه.. وهو يتأملُ واقعهُ بعين التحدّي، ويرسُم غدَه بقلم التخطيط لا الأمل.. إن قابلك لدقائق صُدفةً في شارعٍ مزدحم لن يتذكر اسمك، وإن كُنت من أعزّ معارفهِ لن يتذكّرهُ كذلك، وغالبًا لن يستمتع إن وصفتَ لهُ شيئًا أو حدثتهُ بكلامٍ معسول.. إما أن تُريه الشيء عوضًا عن وصفه.. أو أن تُريهُ أفعالكَ بدلًا من كلامك.. سريعُ الملل من الرُوتين، رغم أن حياتَه روتينية في الغالب تسيرُ كمُحركٍ مُعقد كثيرِ البراغي، بنظامٍ شديد، وكُلما حدث ما يُمكن أن يُفسد ما قد خطط له.. يعُود ليرسُم خطةً جديدةً تتماشى مع المعطياتِ الجديدة.. شديدُ التعقيد.. شديدُ التعقيد.. ولا أحدَ منّا يعلمُ ما يُريد فعلهُ أو ما يشغَل باله.. اللهُ وحده يعلَم.. إن صادف وجمعتك علاقةٌ مع هذا النوع، ستَراهُ يُحبك لكنّه لن يعبر عن ذَلك بقصائد قيس وليلى، بل بقلبٍ أحمر يُرسله في آخر محادثتكما، أو كلمةٍ جميلةٍ ينطقها بلهجـةٍ خالية الشعُور، هُو لا يكرَهُك، هُو يكادُ أن يموت فرحًا حينَ يلقاك، ويمُوت حُزنًا حين فراقك.. لكنّ عقلَهُ لا يسعهُ تعبير ذلك، هو يعلم كيف يُدير أُموره، وينظّم أوقاته ويُكافح في دراسته، وربما امتلكَ حسًا كوميديًا لا بأس به.. لكنّ مخرجاته ضئيلة إن تحدثنا من جانب المشاعر العاطفية.. لذلك قد تعتقد أنهُ لا يعبأ بوجُودك بينما هو يتمنى وجودك.. ومهما منحتَهُ من الحُب والاهتمام ستتوقف مبادلتهُ لك بنفس المشاعر عند نقطةٍ معينة، لا يعود قادرًا على أن يمنحك المزيد بعدها، ولو أنه يشعر بخلاف ذلك.. معقّدٌ كما أخبرتك!.
والبعضُ الآخر لهُ عقلٌ يميلُ لأن يكُون رسمةً، أن يكون نسمة، أن يكون الطبيعة بذاتها.. بتقلُّباتها المزاجية، أن يكُون عدسةً تُدقق في صغائر التفصيل، وأن يكُون طفلًا يغيبُ النومُ عن طرقِ بابِه بسببِ كلمةٍ قالها لهُ أحدهم وهُو يمزح -أزِل هذه الإبتسامة الخبيثة عن وجهك، أنا لا أعنِي موجة الترند الساخرة طبعًا!-، يغفُو أحيانًا بسعادةٍ كقطٍ مليء البطن، ويسهرُ ليلهُ يُسامر ذَاته في أحيانٍ أخرى.. لديهُ حبُّ الشعُور وتقديسُ جمالِ الكلمة وتعظِيمُ التفاصيل، هُو ذاتُه الذي تراهُ يَزنُ كلامه ومزاحه، ويعلمُ تحديدًا ما ستُصيب كلمتهُ من الشخص الذي يُحادثه، يَحذِف رسائلهُ مِرارًا ويُعيد ترتيب كلماتها، ينتَقي "إيموجياته" بعناية شديدة، وينتقي أحرُفه بعناية أشد.. عقلٌ بسيط.. يُصارع خيالهُ واقعَهُ كُل حين.. فتارةً يغلبُه واقعُه فيحزَن.. وتارةً يغلِب خياله فتراهُ يرسُم أجمل الأحلام ويلَوّن أبهى الأماني وينتقي أغرب المُعجزات التي ستحدُث لهُ في هذه الحياة الجميلة، لديـه خُططٌ محدودة، ولا يمنحُ وقتًا للتفكير في الأمور الجادة، يُحب أن يستمتع بالحياة وبالأشخاص وبما يفعل.. لا يُحب الإلتزامات الواقعية الكثيرة، ويميلُ للعاطفيّ منها.. أخبرتُك أنَّه بسيط.. لكِن بساطَتُه سر تعقيده.. ما يُفرحهُ قد يُحزنه إن تغيّر فيه تفصيل، وما يُحزنهُ قد يُفرحه إن أُضيف له تغيير.. يحفَظُ عادات أحبّته وتصرفَاتهم وجداول نَومهم وأطوالَ أظافِرهم، وينسَى واجِبهُ الذي يجِبُ أن يُسلّم صباحًا.. يقضي أوقات فراغِه في الهوايات بدلًا من الإلتزامات.. ودُودٌ جدًا ولطيفُ المعشر.. يتذكّرُ اسم بائعِ الحلوى اللطيف الذي مرّ من شارعهِ لمرة واحدة حين كَان في السادسة، ويحفظُ أسماء معارفهِ الربَاعية.. لا أقُول أنهُ مهووسٌ بالتفاصيل لكنّه يعلم عدد الشعرات في حاجب صديقه المفضل!.. سريعُ البوح بما في خاطره – ليس مع الجميع بالطبع، قد يتصادفُ كونه انتقائيًا وحذرًا - متحمسٌ للتحدث دائمًا .. تُرسل لهُ رسالةُ نصيَّة فيرُد عليك بمقطعٍ من قصيدة، أو باقتباسٍ من كتاب، ثريُّ المخرجات مهما شحّت المُعطيات.. يُدير معكَ حوارًا عن البقدُونس وفوائده ثُم يناقِش مَعك "هاملت" لشكسبير.. ويتطرّقُ بعدها لمُستقبل البورصة المشرق! لتكتشفَ بعدها أنك قضيت نصفَ يومك بينَ أحاديثه وحواراته.. وإن صادفك في علاقة، سيجعلُك تحب الليل وتحُب النهار، تحب شمس الصيف وتحب صقيع الشتاء كذلك، تحب وجوده، وتركيزه في تفاصيلك التي حتى أنت تغفَلُ عنها، سيمنَحُك أكثر مما تعطيه دائمًا، سيجدُ طريقةً ليتفوّق على كُل كلامك العذب، وسيجدُ دربهُ ليضعك دائمًا في موضع الإنبهار بهِ وبشخصيته الجميلة، وعاداته الأجمل، وسيفاجئك بتعبيراته الأخّاذة، وكلماته الموزونة الجميلة.. وقد تقدم له أبسط البساطة، فيطيرُ بها فرحًا ويكتُب عنها شعرًا.. كما أخبرتُك.. لا يزال تسعده كلمة وتؤرّقه كلمة.. عقلٌ بسيط لكنّه ليس كذلك.
ولأنّ العقُول -كأعضاء حيويّة- مُعقَّدةٌ أصلاً.. قلّما تجِدُ عقلاً بسيطاً في أدائه وتحليلاته.. عوضًا عن أنك قد تجدُ ضالتك في أحد الأطفال قليلي التجَارُب، أو في أحد البُلهاء بطيئي الاستيعاب.
ألا تُوافقني أن من العجِيب حقًا قُدرةُ العقلِ الحاسُوبي على إنهاء أي تواجُد للقلب وخواطِره؟ ، ولذلِك ترى القلب يتبعُ العقلَ هُنا.. لا مشاعر، لا عاطفة، هُو مجرَّد عُضو ضاخ للدماء لا أكثر، و ويلٌ لهُ إن سوّلت لهُ نفسه أن يضُخ شعورًا أو ينبض بإحساس. أمّا القلبُ المغلف بأجنحة الفرَاش يطغى على العقلِ الذي كينُونته اللطافة.. فتراهُما يتشاوران في قرارت الحُب وسيناريوهات المعجزات الحالمة، ويتناولان قهوَة الصباح في دُكان الخيال الفسيح الواقع في زاويةٍ من زوايا شارِع المشاعر الفيّاضة.. وإن مسّ القلبُ حزنًا أو أصابَ العقلُ تفكيرًا مؤرقًا يتناوبان سهرًا على التوقعَات والتحليلات، كحارسا مشفى عجوزَان قد أهلكتهما تفاصيلُ الحياةِ وتقلُب الأزمان.
أما أنا يا صديقي، فقَد كُنت رقيق القلبِ دومًا، شديدَ الجذب، سريع التفاعُل، أُجيد من الكلامِ القيلَ والقال، وعُمري تسعة عشر خريفًا منذُ يوم وُلدت، و ثلاثُون شتاءً مُنذ خُضت تجربتي الأولى.. وإني لأرى فارقُ العمرِ بين السنين والتجارُب أولَى بأن يُذكر دائمًا.. لكنّني تغيَّرتُ تباعًا.. تقِل اهتمامَاتي بالتدريج، وتزيدُ رغبتي في أن أُخطط لا أن أحلُم.. أن أحظى بساعات نومٍ كافية وليذهب "أحدُهم" الذي قال لي الكلمة الجارحة إياها للجحيم، ولتلحق بهِ كلمته.. إحساسي بالذنبِ قد تضاءل وصرت أميلُ للإعتقاد أنني بشريٌ طبيعيٌ يخطئ ويُصيب ويتقلّبُ بين أحوال الحُزن والسعادة - أكثر من اعتقادي أنني قَد خُلقت لنشرِ الفرح على وجوه الجميع وإماطة الحصَى من طُرق الحالمين الوعرة، فقدتُ حسًا إبداعيًا ما.. لا أعلمُ ماهو تحديدًا لكنّ إحساسي بفقداني لهُ يجعلني أعلم ذلك.. أصبحتُ أرى أن جواب ١+١= ٢ أكثر مما كُنت أراه ١+١=١١ لذلك أعتقد أنني فقدتُ بعضًا من سعةِ خيالي أيضًا، فقدتُ حسًا كوميديًا ساخرًا، وتركيزًا في التفاصيل، وذاكرةً من حديدٍ قاوم الصدأ.. لكنّ الصدأ قد تمكّن منهُ أخيرًا.. أتذكرُ تاريخ ميلادي وتواريخًا مُحببة لي، تقلص عددها من المئة إلى العشرين.. أتذكرُ أصدقائي المعدُودين على أصابع اليدين فقط.. وأنسَى أسماء زُملائي في أحيانٍ كثيرة، لازِلتُ أحلمُ لكن بواقعية ما عهدتُها عن نفسي.. لازلتُ أضحك لكن بحساباتٍ ما كُنت أضعُها، لازلت أنتقي "إيموجياتي" بعناية، وكلماتي بنفس العناية.. لكنّ حسًا من الصراحة الزائدة بات مُسيطرًا على الموقف.. قلّ تأثُّري بكلامك وزاد تطَلُّعي لأفعالك، ما صرتُ أُطيق الكلام عن مشاكلي الشخصية وصعُوبات الحياة التي تعترضني، أنا الذي كُنت ما أطيقٌ صبرًا أن أبُوح بما في خاطري وأروي قصّة حياتي ولعنةُ أحزاني المزعومة لأوّل غريبٍ يُجاورني في مقعد الحافلة.. وعلى غرار الحلاج حينَ قال: "ديني لنفسي ودينُ الناس للناس" أصبحتُ أقول: "همّي لنفسي وهَمُّ الناس للناس".
أنا معلَّقٌ بينَ ما كُنت عليه وما صرت أحتاجُ أن أكون عليه.. مُمسكٌ بالعصا من المُنتصف.. عقلِي حاسُوبيٌ لكنّه لا زال يرسُم ويُجيب المقرَّبين بقصيدةٍ أو باقتباسٍ.. قلبِي سميكُ الغلاف لكنّ غلافَهُ قد حبسَ بداخلهِ فراشةً تحوم بلا ضجر.. أتأثرُ أحيانًا بنصفِ كلمة، وفي أحيانٍ أُخرى حينَ تُحاصرني الهُموم أغُط في نومٍ عميق.. لأصحُو صبيحة اليومِ التالي بادئًا يومي بابتسامة.
