من هم الأبطالُ حقًا؟


مُذ كنت صغيرًا وأنا يعتريني ذلكَ التَعلّق الشديد بالأبطال الخارقين، حالي كحال جميع الأطفال الحالمين بقُوى خارقة -ولا تُنكر أنك كُنت أحدهم في يومٍ من الأيام- .. شاهدنا جميعًا كُل هؤلاء "المختارين" وهُم يرتدون أرديتهُم عجيبة الشكل، متميزين بصفاتٍ تمنيناها، ومحاولين نصرَ الحق وإبادة الظُلم وأهله.. بدءًا من "طرزان" الذي كان يعيشُ بين الأدغال، وصُولًا لـ"الرجل الحديدي" المُزود بأحدث التقنيات لجعلِ نُصرة الحق وهزيمة الظالمين مسألة وقتٍ لا أكثر.

زرعت فينا أفلامُ الأبطال الخارقين وقصصُهم نظرةً خيالية لا تمُد للواقع بأي صلة قرابة، نحنُ دائمًا نتخيّل أن الأبطال الخارقين قد تمت تسميتُهم بذلك لأن الواحد منهُم قد أعطي من القوى الخارقة مالم يحظ بهِ غيرُه من البشر، وفي غالب الأحيان نحنُ نؤمن أن الأبطال الخارقين قد وُلدوا في مجلّات "مارفل" و "دي سي" وتم تطويرهم وإظهارهُم في الأفلام السينمائية للشركتين السابق ذكرهُم، لذلك لدينا اعتقاد شديدُ الثبات أنه لا وجُود لهُم من الأساس، بل حتى أنه لا وجود لشطري التسمية، فلا وُجود للأبطال في هذا الزمن، ولا وجود بالضرورة للخارقين منهم!.

أعددتُ قهوتي التي أشرَبُها على سبيل التباهي ليسَ أكثر، وارتديتُ نظارتي التي تُظهرني مُثقفًا، وها أنا ابدأُ معكَ يا قارئي العزيز حوارًا جديدًا أطرحُ لكَ فيه ما أراهُ قابلًا للطرح، داعيًا لك أن تشاركني الحوارَ ذهنيًا أو واقعيًا.. فهيا بنا قبل أن ينفد فنجانُ قهوتي الصغير، وقبلَ أن تملّ من قراءة سطُوري .. ودُون إسرافٍ في المُقدّمات لأنني لا أُحب المقدمات كما تعلم..

دعني أحدثك عن الأبطال الخارقين..

سمعتُ أن مطرقةً غنّت أُغنيةً ذكرت فيها أن "البطل" هُو من امتلكَ عُودًا قد التَف -وفي ذلك من السُخرية الشيء الكثير إن كُنت تفهمني- ، لكنني أرى أن البطلَ حقًا ذلك الإنسان الذي تراهُ ملهمًا لغيرهِ مُساعِدٌ لمن حَوله في حُدود ما يستطيع، حريصٌ على تطويرِ نفسِه وإفادة مُجتمعه ببذل كُل ما يُمكنه بَذله، محافظٌ على قيم حميدة وأخلاق فاضلة.. وناشِرٌ للإيجابية والتفاؤل بأفعاله وكلماته.

لطالما كرهتُ الصورة النمطية للأبطال.. أن ننتظر يومًا يحُل فيه الظلام على العالم، ليأتي شخصٌ ما يرتدي بزّةً خارقة تحت بدلةِ رسمية، ويُعلن لنا أنه قد جاء ليحرر عالمنا مما تفشى فيه من الظُلم قبل أن نهلك جميعًا، ولكم تعجبت من انتظارنا الـمُتواصل لأبطالٍ يخرجوننا من مشاكلنا ، ويحلُون لنا أزماتنا المستعصية، مُتجاهلين أبطالًا نلقاهُم كُل يومٍ دون أن نُعيرهم انتباهًا ، ودُون أن نتحدّث عنهُم لنشكرهم بالشكلِ الذي يستحقُّونه طبعًا.. لذلكَ أنا أعتذرُ باسم المُجتمع لكل بطلٍ نبيلٍ غفلنا عن أعماله وتجاهلنا وُجوده.

نحنُ نتجاهَلُ شرطيّ المرور الذي وقفَ ليُنظم سير الطريق تحت عاصفةٍ هوجاء، نتجاهَلُ عامِل النظافة الذي ما انفَك يُنقذنا من أنفسنا، نتجاهَلُ البُسطاء الكادِحين عزيزي الأنفُس خفيفي الظِل الذين نلقاهُم صُدفةً ويَرسُمون سراجًا لبعضِ أيَّامنا القاتمة بضحكاتِهم الجَميلة وإيجابيتهِم الفائضة، نحنُ نتجاهَلُ الأُناس الطيبين.. الرجلُ العجوز الذي قدّم لنا الحلوى حينَ تشاركنا ذات الكُرسي في الحافلة، والمرأة طاعنة السن التي رفعت أكُفها بالدعاء لنا حين رأتنا ذات صباحٍ حاملين حقائبنَا ومتوجهين نحوَ كُلياتنا أو مدارسنا.. نتجاهَلُ من تبسّم في وجُوهنا، ومن همسَ لنا بكلامٍ عذبٍ جميل.. نتجاهلُ من يخبروننا بألسنتهم وأفعالهم أن العالم لا يزالُ فيه الخير، نتجاهلُ المجتهدين الحالمين بتحقيق الأفضَل لمجتمعنا.. وتغيير حاله للأجمل.. نحن تجاهلنَا الطالب الذي يستيقظُ فجرًا لا لشيءٍ إلا لأن طمُوحه أن يستطيعَ يومًا أن يصل إلى هدفِه ويُفيد مجتمعه وأمته بما يتعلمهُ.. تجاهلنَا المعلمين والعُلماء.. تجاهلنَا الأطباء الناجحين والمُهندسين المتميزين، والمُخترعين المبدعين، والرياضيين ذوي الرسالة، الذين ساهم كُل منهم بدوره في رقُي مجتمعه، تجاهلنا الكثير من نماذج الأبطال حولنا.. أوتعلَمُ من تجاهلنا أيضًا يا عزيزي؟ لقد تجاهلنا أنفُسنا!.

لقد تجاهلنَا أسَرنا، غفِلنا عمّا قدمه لنا آباؤنا ، عمّا عانوه يَوميًا ليجلبُوا لنا لُقمة العيش، وليشتروا لنا ما نحتاجُه و ما نرغَبُ به من ملابس وألعابٍ، غفلنا عمّا سُرق من أعمارهم في سبيل سعادتنا وتوفير الراحة لنا والعناية بنا، تجاهلنَا ما سُرق من صحة أُمهاتنا في سبيل رؤيتنا ننعُم بالحياة الهادئة المُريحة التي لا شقاء فيها بفضل الله ثُم بأفضالِهم علينا.. وتجاهلنا ما يضعُونه على طاولتنا كُل يومٍ من تربيـةٍ وإرشاداتٍ حكيمة، قبلَ الطعام الذي يُوضعُ كُل يومٍ على ذات الطاولة. لقد تجاهلنا أصدقاءنا أيضًا.. هؤلاء الذين أسندُونا حينَ مالت علينا الدُنيا ودارت بنا الدوائر، أولئك الذين ساعدُونا حين ضَاق بنا الحال، واستمعوا لشكوانَا دُون ضجر ولا ملل.. أصدقاؤنا الذين جبرُوا خواطرنا، وجمَّلُو صُورتنا في أعيُن الناسِ وفي أعيُن ذواتِنا، وستروا عُيوبنا.. من كانُوا معنا في الضراء قبل السراء قاطعِين على أنفُسهم عهُودًا أن تكُون سعادتُهم من سعادتنا، وأن نتجاوز الأحزان سويًا مهمَا بلغ مداهَا. لقد تجاهلنا أنفُسنا.. ما سعينا إليه من إسعَاد الناس، وما تطوعنا لفعلهِ بطيب نفس دُون أن نرجُو أجرًا لذلك مما عندهُم، حينَ ساعدنَا عجُوزًا في عبُور الشارع، حينَ دللنا ضالًا حتى اهتدى، حينَ كتمنَا غيظًا، حينَ صُنّا ألفاظنَا حتى لا يُجرح أحدُهم من كلماتنا، أنسيتَ حين شجّعت طفلًا؟ و دعَوتَ لصديقك في ظهرِ الغيب؟ حين نصرتَ مظلُومًا؟ وساعدت فتاةً ضايقها بعضُ أشباهِ الرجال؟ أنسيتَ ذات يومٍ حين أعطيت ذلك السائل كُل ما في جيبكَ راجيًا أن يجعلك اللهُ سببًا في تيسير حاله؟ أنسيتَ كلماتك الطيبة التي وهَبتها لمَن يحتاجُها وأنت قد كُنت في أمسٍّ الحاجة لمن يقُولها لك أيضًا؟ أنسيت يومَ أن ربّت على كتفٍ وأنت أحوَجُ الناسِ أن يُربَّت على كتفك؟ أنسيت طلبك للعلم وأنت ترجُو اللهَ أن يعينك لتُفيد الناس؟ وأن يوفقك ليكُون لكَ هدفٌ نبيل ورسالةٌ هادفة في هذه الحياة؟ أنسيتَ ما بذلتَ وصنعت انطلاقًا من فطرَتك السليمة وقلبك الطاهر؟، إياكَ أن تنسى ذلك أبدًا أيُّها البطل.. إياك أن تنسى أن أسرتك -أو من يقُوم بأدوارهِم- أبطال.. وأصدقاؤك أبطال.. وأنتَ أيضًا بطلٌ من ضمنِ الأبطال!.

أنا وأنتَ يُحيطنا الأبطال من كُل الجهات.. لكن يا عزيزي ليسَ البطلُ ذاك الذي لديه ملايينُ المتابعين والـمُتابعات على مواقع التواصُل ليخرج علينا كُل يومٍ بصدرهِ مفتُول العضلات مُذكرًا إيانا بما حققتهُ أغانيهِ ومسلسلاته من نجاحات لا لشيءٍ إلا أن أمثالهُ من عديمي المسؤولية غائبي الثقافة يُتابعون فنّـهُ الهابط، وليس بطلاً ذلك المُطرب الذي أتوقعُ –والعِلمُ عند الله- أن صوتهُ قد شابه صوتَ صرير باب غُرفتي قبل أن أُعالجه بالزيت.. ليسُوا أبطالًا حقًا.. أعظم صفات الأبطال أنهُم يعملونَ في الخفاء، غير باحثين عن السلطة أو المال، أو حتى لفت الأنظار، يقُومون بأفعالهم البطولية كُل يومٍ دون كلل ولا تعب ولا يطلبُون لذلك أجرًا إلا من رب العالمين.. إن الأبطال حولنا.. لكننا ننظُر للجانب الخطأ، نُشغل أنفسنا بالحديث عن الأُناس الخطأ، نُحدثُ ضجةً عن الأفعال الخطأ.. ونتجاهلُ الأشخاص الخطأ حقًا.

حينَ كُنت في العاشِرة، أي في الصف الثالث الإبتدائي تقريبًا، لم أكن أكثرَ من طفلٍ شديد الفُضول وكثيرِ الأسئلة، وقد حاولتُ آنذاك أن ألتحق بجماعة المكتبة في مدرستنا، ونجحتُ في ذلك.. لذلك تراني كُل "فسحة" أتوجهُ إلى المكتبة لأقرأ بعضَ الكُتب الصغيرة وأستعير منها ما لم يُمهلني جرسُ الحصة حتى أنتهي من قراءته.. ولاحظتُ بعد مدة من تواجدي المستمر في المكتبة أن الأستاذ المسؤول عنها يجلسُ كثيراً أمام حاسوبه وقد تصلبت عينَاهُ على أحد البرامج التي تبدو شديدة التعقيد في نظري، في إحدى المرات غلبني فضولي فسألتُه عن ذلك، وأخبرني أن ما يقوم به يُدعى "مهنة التصميم" وهو أن تقوم بدمج بضع صور وبعض العبارات معاً لتحصل على مادة ثرية في نهاية الأمر، وزاد ذلك من فضولي.. فأصبحتُ أزعجه يوميًا بزياراتي، وأخذتُ نسخةً من البرنامج على جهازي، ولم يمضِ وقتٌ حتى أصبحتُ أطبق ما يُعلمني إياه ذلك الأستاذ الفاضل.. لم ينزعج يومًا من سؤالي بل شجّعني و علّمني و وقف بجانبي.. وها أنا الآن بعدَ تسعة أعوامٍ من تلك الأيام.. أُجيد التصميم بشكلٍ لم أكُن أتوقعُه أو أحلُم به، وقد انفَتح لِي الكثيرُ من أبوابِ الرزق -بفضل اللهِ أولًا- ثُم بفضل ذلك المعلم الذي ألهمني وساعدني وما انفَك يدعمُني.. هُو بطلٌ في نظري دائمًا!.

حين أصبحتُ في الصف الخامس الإبتدائي، كتبتُ واجب تعبيرٍ كان قد طلبهُ منا معلم المادة.. تحدثتُ فيه عن فصل الخريف.. ولم أكتُب أكثر من خمسة أسطر.. لكنّ مُعلم المادة سألني بتعجّب إن كُنت أنا من كتب هذه الأسطُر أم أن أحدَ الكبار قد ساعدني في كتابتها؟ وحين أكّدتُ له أنني أنا من فعلَ ذلك.. طلب من الجميعِ في الفصل أن يُصفقوا لي تقديرًا لما فعلت، ولأنه رأى أنني كتبتُ جُملاً يعلُو مستواها عن مستوى طالبٍ في المرحلة الإبتدائية.. كان ذلكَ سبب إلهامي، وإيماني أنه يُمكنني أن أكتُب ما يحُوز على رضا الناس، وعملتُ جاهدًا مُذ ذاك الحين على أن أكُون كاتبًا محاوِلًا تطوير نفسي بشتى الطُرق.. والآن الفضلُ في قراءتك لهذا المقال يعُود -بعد الله- لمُعلمي البطل الذي بثّ فيّ هذا الإيمان وشجعني لأستمر فيما أقُوم به.

أذكُر لك هذين المثالين لتعلمَ ما يُمكن أن يُحدثه الأبطال من تأثيرٍ خفيّ في حياة أحدهِم.. وفي هذا دعوةٌ لأن نستمر في كوننا أبطالًا، فكَم من حياةٍ ستتغيرُ للأجمل إن استمررنا بدعمِ صاحبها وإلهَامه؟ ، علينا أن ننقُل المبادئ السامية والأخلاق الحميدة للأشخاصِ الذينَ نُخالطهم –لاسيما صغَارُ السن منهم- بدءًا من كلماتنا المُلهمة والمشجّعة وصُولاً إلى أفعالنا التي تُثبت قيم البطُولة والإيجابية وتُرسّخ الإيمان بالفعلِ النبيل ومالهُ من عظيم الأثر في رُقي الأفراد والمُجتمعات.. أفشُوا البُطولة بينكم، واضرُبوا بالصُورة النمطية عرضَ الحائط.. نحنُ جميعًا أبطال، وكُل من قَام بعملٍ نافعٍ طيب الأثر مهما كانَ بسيطًا- لهُو بطلٌ كذلك.

ختامًا، سلامٌ على كُل شهم نبيل استمَر في تقديم نموذج مشرفٍ لما يجبُ أن يكُون عليه الإنسان الراقي وخَذلتهُ إطراءاتُ الناسِ وتجاهَلهُ مديحُهم.. سلامٌ على كُل مُلهمٍ حسن الذكر، وكُل جابرٍ للخواطر، وكُل مُبتسمٍ تبسّم ليتصدق بنشر الإيجابية والتفاؤل فغدا بطلًا لأحدهم، سلامٌ على من حولنا ممن دعمونا وجاهدوا ليُسعدونا، سلامٌ لكل من استَغل ما يعلمهُ لرفعِ مُجتمعهِ وأُمته.. سلامٌ علَى مُحاربي الإكتئاب وناشرِي السعادة فيمَن حولهُم.. سلامٌ لكلّ أبطال عالمنا اليَوم ولكُل بطلٍ قد اندَثرَ فعلُه عندَ الناس ولكنّ رب الناس لا ينسَاه.. سلامٌ على الأبطال في كُل مكان وزمان..أسألُ الربّ السلَام أن يُحِلّ علينا جميعًا السلام، وأن يعفُو عنّا بأفعالنا الطيّبة النقيّة.. وأن يُعيننا دومًا لنكُون أبطالًا مُلهِمين وأن يهدِينا لدربِ عبادهِ الـمُصلحين الصالحين..آمين.

© 2017