الشوربة والزبادي وكفتيريا الكُلية



في ثقَافتنا مثالٌ جميلٌ جداً.. خطرَ على بالي اليوم حين وقعت عيني على عُلب الزبادي المتراصة في ثلّاجة كافتيريا الكُلية رديئة الخدمة، تذكرتُ حين قالت لي أمُي في جلسةٍ دافئة الأثر "يابني الي يتلسع من الشوربة.. ينفُخ في الزبادي".

وإنني لأتوقع –من منظوري الشخصي- أن الدماغ البشري يستخدم استراتيجية صارمة جدًا لحماية الإنسان من نفسه.. لحمايته من توقُّع الأجمل دومًا من الآخرين، لحمايته من طيبته الزائدة، ولحمايته من ظنّ الخير المُلازم له دائمًا.

أرى أن الدماغ يصلُ لنقطة معينة بعد عدد معيَّن من التجَارُب الفاشلة.. ويبدأ بإعادة ترتيب أوراقِه من جَديد، يغيِّر الدماغ طريقة تفكير الشخص ومبادئهُ الانتقائية عنوةً لحمايته من آثار التجارب السابقة، ولضمان عدم تكرار المواقف المُؤلمة التي مرّ بها قبلًا.. ونتيجةُ ذلك أن ترى الشخصَ قليل الكلام مع تحفظاتٍ كثيرة على شخصيته.. أو قد ترَاهُ كثير الكلام دائم التَبسم والمزاح، لكنّه ينتقي ما يقُول قبل أن يقوله ويعرِف ما سيقُول ومن سيقُول له واضعًا في الحسبان الطريقة التي سيقُول بهَا، دارسًا أثر الكلام الذي سيقُوله على من سيتلقّاه.. أيضًا ستراهُ لا يسمحُ للجميع بأن يتعرّفوا عليه.. يُبقي جزءًا من نفسه غيرَ منكشف لعامة الناس، ويُبدي ذلك الجُزء لمن يراه يستحِق أن تربطه به علاقة.. تراهُ ينتقي من يُصاحبهم بعناية شديدة جدًا معتمدًا على لائحة طويلة من المُتطلبات والشُروط التي لم يكُن يبحث عنها سابقًا، وكذلك يُركز في أدق التفاصيل شديدة الصِغر ويعتبرُها مصباحًا لكشفِ طريق الشخصية القابعة أمامه.. وحينَ أقُول علاقةً هُنا ، فأنا أعني الصداقة أو الحُب على حدٍ سواء.

سترَى الفتى شديدَ الاجتماعية ومحُب التجمعات يصلُ لمرحلةٍ أخرى من النضج.. يُصبح غير مُبالٍ بمن لا تربطه بهم علاقة وطيدة، قاسيٌ لكنَّه مبطَّن بأسلُوبٍ جميل، لا يُجامل أو يترُك لأحدٍ مجالاً أن يُفسد عليهِ حريَّته ومتسعَ راحته فيما يفعل، واصلًا للتوازن المطلوب حيثُ أنّه لا يُبالي بوجود الآخرين، لكنّه في ذات الوقت لا يَطردهُم من حَوله.. فهُو ليسَ فظًا غليظ القلب، ولكنَّه أيضًا ليسَ سهلاً شديد التعلُّق.. إنما يُصاحب ويُعطي كُل من حوله على قدرِ ما يرى منهم.
لفتَ نظري أنُّنا أثناء فترَة المرحلة الإبتدائية، نتعرَّفُ على عددٍ هائل من الناس تحت مُسمى "أصدقاء"، لكنّ هذا العدد سُرعان ما ينقص لأكثر من النصف في الفترة الإعدادية، ثم يتزايدُ نقصانه في الفترة الثانوية، وتبدأ في التفريقِ بين الألفاظ..

فالصدِيقُ ليسَ زميلًا.. والصداقةُ ليست علاقةً وقتيةً مع شخصٍ بما بدافعِ ظروف تواجدكم في ذات المكَان لفترةٍ طويلة، ولَا تُقاس الصداقة بطُول مدة المعرفة.. إنما الصديق من صَدقَك وصدّقك، من عَلم عيُوبك ولم يبتعد عنك بل قـوّمك، من أراد لك الخير حيثما كان وكُنت، الصديق هو من يسعى لإسعادِك بكُل ما يستَطيع، الصديقُ هو كتفُك الثالثة، هُو من طابق تفكيرُه تفكيرك، وراقت لهُ نكاتك السَمجة، هو ذلك الشخص الذي تستطيعُ أن تكُون معه في أقصى درجات بلاهتك دُون حرج، وتكُون معه في أقصى درجاتِ جديّتك، وتراه محتويًا لكَ في الحالتين.. هو من مدّ لكَ يدَهُ حين كفَّ البَاقُون أيديهم، من يقرأُ نظراتِ عينيك، ويحفظُ ملامح شخصيتك وأُسس تفكيرك، والصديق وحدهُ من يعلم كيف ينزِع اعترافك الحزين من بين ضحكاتِك الزائفة.

هِي علاقةٌ عكسيّة، بين النُضج وعدد الأصدقاء، فكُلما زادَ نُضجك زادت رغبتُك في أن تُصادِق من يستحِق حقًا.. ثُم تصبح انتقائيًا جدًا بعد تجارب معينة تتعلم منها ألّا تطلق على كُل من هَب ودَب لقب "صديقي"، بل ستقُوم بتقسيم الناسِ في حياتك إلى طبقاتٍ، وتُنزل كُل واحد منزِلتهُ الصحيحة حتّى لا تُخذل من جدِيد.

إنَّك حين أعطيتَ أناسًا أكبر من أحجامهم، وبالغت في تقدير من لا يستَحق تقدِيرك، وتأمّلت خيرًا فيمن لا يُرجى منه الخير.. ثُم حدَث ما حدث، فلانٌ خذلك، وفلانٌ أفلت يدَك بعدمَا أقسم بأغلظ الأيمَان أنه لن يفعل، وعامَلك آخرٌ بما ليس أهلًا لمقامك وقلل من تقديرك واحترامِك، أنت هُنا يا عزيزي كمَن وضع أمامه طبقٌ من الشُوربة.. فسَارع في تذوّقها دون تفكير، فاستَحق ما حصلَ لهُ من لسعِ "لسانه".. كذلك الحياةُ تضعُ أمامك شوربة "الأشخاص" محاولةً إغراءك، فإن تسرعت في أحكامك عاقبتكَ بلسعةٍ لتعلّمك الدرس..

ومَن لُسعَ من الشُوربة، سيصِل بهِ الحذرُ إلى أن ينفُخ في الزبادي! .. ستراهُ يتمهّل في علاقاته ويختَبِرُها قبل أن يخوض فيها، لا يغتَر بالمظَاهرِ المادية، ولا المواقف السطحية العادية، ولا يتأملُ خيرًا من أحد، ولا ينتظِر شيئًا من أحد، ليسَ عنده استعَدادٌ أن يُشدّ على يدِ من لا يستحق، لأن الحياةَ علّمته ألا ينتظر حتى لا يُخذل، وألّا يتمسك حتى لا يُترك، وفي أكثر الأحيَان.. من مدّ يدهُ أولًا يكُون أكثرُ الخاسرين في النهاية.. ستراهُ يعلم متى يجِبُ عليه القتال، ومتى يكتفي بالإنسحاب، ومتى يُثير ضجةً لانسحابه، ومتى ينسَحبُ في هدوء.. سيغدُو حذرًا، سينفُخ دائمًا قبل أن يتذوق..

فقدتُ تركيزي لوهلةٍ وتصلبتُ أمام عُلب الزبادي سارحًا في خيالي واسع الآفاق، وما نبّهني لواقعِي إلا صوتُ "طَنط اعتماد" الأجش وهي تُناديني على استعجالٍ لتُعطيني شطائرِي عديمة المذاق التي طَلبتُها من كافتيريا الكُلية، الآن لا مجال للتفكير فِي الشُوربة أو الزبادي أو سكيولوجية الدماغ المعقدة في التعامل مع العلاقات، يبدُو أن وقتَ التَسمم قد حان الآن، وأنا إنسانٌ أحب الإلتزام بمواعيدي دائمًا.. لذلك أراكم لاحقًا يا رفاق!.


© 2017