حديثُ الليل



لماذَا الليلُ تحديداً؟

مِن العَجيب حقًا حُبُّ صِنفٍ من بني البشر للفترة الليلية من يومِهم على وجهِ الخُصوص، يتسَاءلُ بعضُ المتفائلون عَن حُبِّنا لهذا الكائن القَاتم، يرونهُ ضَيفًا ثقيلاً، ونراهُ صاحبَ كَرمٍ قد حللنَا بداره.. يرون الليلَ مستودعُ الأحزان، ومخزنٌ للاكتئاب ومصدِّر للآلام النفسية والندُوبات وحالات الصرع والهلوسة، وفي هذا نوعٌ من العنصرية الفجة، والحقد الدفين .. لماذا نجعلُ الليلَ أيقونةً للمآسي؟ والنهار علامة الفرح والبهجة؟.

لماذا أُحبُّ الليل؟، سؤالٌ سألتُه لِنفسي في أثناء قطعي لكعكة الشوكولا التي ترك أهلي بقاياها في البَرّاد، ياللذة! -أتحدث عن الكعكة وليس السؤال طبعًا-، حسنٌ لنعدْ لموضوعنا، أعتقد أن إجابتي في هذا الصدد ستكُون شاعريةً قليلًا، فأنا أعتبرُ الليلَ صديقًا لا بأس بهِ على الإطلاق.. والخلاصةُ أنني ليلًا أشعُر براحةٍ أكبر،  أبدأُ بالتفكير فِي أفكارٍ لا يحلو لي التفكير فيها صباحاً، كأن عتمةَ الليلِ تَزيدُ من خصوصيةِ أفكاري، وتحتوي سوداويتها مهما بلغت منَ الدرجات!.

أهوى الشتاء جدًا، ليس لسببٍ سوى طُول ليله، أتسامر مع ليلِ الشتاء ونتجاذب أطراف حديث شائق، أُبحر في محيط أحلامي ، أُراجع دفاتر ذكرياتي، أُعدّ قهوةً شديدة السواد سيئة المذاق، أكتبُ شعرًا كسير الأوزان، وأتفكّر في بديع خلق الله، أقُوم بكل أنشطتي الجسدية والذهنية والنفسية من أدناها حتى أعلاها بكل حريّة وراحة، آكلُ من برَّادنا حين ينام الجميع، وأتراقص في غرفة الضيوف الفارغة.. وقتٌ آسر أقضيه مع الليل الطويل، وعلى النقيض ، فإنني صيفًا ما ألبث أن أفتح باب الثلاجة حتى يرفع المؤذن أذان صلاة الفجر ، طاعنًا ليلِي في قلبه ومعلنًا بزُوغ فجر الصباح، تحكم بي الليلُ حتى أحببتُ فصُولًا وكرهتُ أخرى بسببه.

حفظت الليل وحفظني، يُمكنكَ أن تسأل ذاكَ القمر عَن أسرارٍ لم أُطلع غيرهُ عليها، عن دمُوع مسحناها سويًا، وعن بوحٍ ثقيلٍ أزلتُه عن كاهلي وحدَّثتُه به.. ويمكِنُك أن تسألنِي عن تلكَ النُجوم التي تراها كثيرةَ العدد، فقَد أحصيتُهن مِرارًا يا صاحبي، وسميتُهن أيضًا فمنهن "روفٌ"، و"إيلافٌ"، و"نجوى" ، و"ريم".

 الليلُ رَفِيقُك الذي لا يَخذُلك، حبيبُك الذي لا يَهجُرك، أنيسُك إن استوحَشت بني البشر، هو مهدُ الأفكار ومَنزِلُ الأحلام.. هو حائطٌ خطّ عليه الشُعراءَ أبياتَ فخرهِم، وإناءٌ صَبّ فيه العاشِقون لوعةَ وجدِهم.

لماذا الليل؟.. لأنكَ تُهاجم من قبل ملايين الأصوات في النهار .. وتتلقى آلاف الأفكار، يضيعُ وجودك وتضيع كلماتكَ بينها ولا تعودُ سبيلاً.. أمَّا ليلاً، يغدُو بمقدوركَ أنْ تسمعَ نفسك بوضوح، أن تَمنح لوجدَانِك فُرصةً للتَحدُّث.. يمكنك حتى أن تصْرخَ -إن أردتَ- دون ملامة أو عتب.. قانونُ الليلِ يَمحنك الحُريةَ المطلقة.. فافعَل ولا حرج.

كعكتِي أوشكتْ على الإنتهاء، سأدعُ لكَ تفكيركَ العَميقْ وأذهبُ لأختلس شيئًا آخر من البَرّاد، وماذا يمنَعُني!؟ فنحنُ فِي عتمة الليل.

© 2017